الرئيسية / غير مصنف / ذكرى لا تُنسى، وزمانٌ لا يَمُرْ
Oplus_131072

ذكرى لا تُنسى، وزمانٌ لا يَمُرْ

 

بقلم : محمد بدر 

 

من سنة الله تعالى في الكون والحياة أن الحياة تتبدل وتتغير، وهي غير ثابتة على حال أبداً، ومع مرور السنوات الطويلة على هذه الأرض نلاحظ أنّ أسلوب الحياة فيها انقلب رأساً على عقب، فالأشياء التي كانت تحدث في الماضي كشيء طبيعي وبديهي أصبحت في الوقت الحاضر ضرباً من الجنون أو المحال والعكس كذلك، ولا يقتصر هذا التغيير على شيء معين، إنما يتعدى إلى أشياء كثيرة فكلّ شيء موجود في الحياة يتغير بتغيرها بدءاً من الإنسان، إلى شكل الحياة وطبيعتها إلى الاكتشافات. كانت الحياة في الماضي تتم بصورة نمطية شبه ثابتة، لأنّها كانت تخلو من التعقيدات الكثيرة والاختراعات الموجودة في الوقت الحاضر، فظلت الحياة لفترة طويلة تتم بطريقة بدائية جداً؛ حيث كان الناس يتنقلون على الحيوانات التي يركبونها مثل الأحصنة والجمال، كما كانوا يتراسلون عن طريق نقل الرسائل باستخدام الحمام الزاجل، أما اليوم فأصبح العالم قرية صغيرة، إذ أصبح التواصل بين قارات الأرض يتم بمجرد لمسة زر واحدة، كما أصبح التنقل بالطائرات والسيارات والقطارات أسهل وأسرع. فيديو قد يعجبك: كانت مجرد المرض البسيط قديماً يؤدي للموت في معظم الأحيان، أما في الوقت الحاضر فأصبحت الحياة أكثر صحة، وتم القضاء على الكثير من الأمراض، كما تم اختراع الأجهزة الطبية والأدوية، مما جعل الحياة في الوقت الحاضر أكثر راحة، وأطول عمراً بالنسبة لمن يعيشون فيها. كلّ الاختراعات التي ساهمت في نجاح الحياة وتطورها في وقت الحاضر، حملت الكثير من الإيجابيات التي جعلت من الحياة أسهل بكثير، لكنها في الوقت نفسه منحت الكثير من السلبيات التي لم تكن موجودة قبلها في الماضي، ففي الماضي لم تكن الأسلحة الذرية والقنابل والصواريخ وأدوات الحروب موجودة، وكانت البيئة أجمل وأنظف، فالاختراعات الموجودة في الوقت الحاضر دمرت البيئة وقلصت المساحة الخضراء على كوكب الأرض وزادت التصحر فيه. مهما حاولنا أن نقارن بين الحياة في الماضي والحاضر، لن نستطيع الإحاطة بجميع الجوانب، لكن الغالب في هذا الأمر أنّ لكلّ وقت إيجابياته وسلبياته، فالتطور الذي شهدته الحياة عبر الزمن، وعلى الرغم من أنّه ساهم في تطور البشرية، إلا أنّه قلّص الخصوصية التي كان يتمتع بها الأفراد، وقلل حجم الفراغ والوقت، وزاد الحياة تعقيداً، لكننا لا نستطيع أبداً إنكار حقيقة أنّ التطور أفاد البشرية أضعاف ما أعطاها من سلبيات، وأنّ الحياة قديماً كانت مليئة بالكثير من الصعوبات، كما كانت الحياة أقل زخماً وربما أصبحت الآن أكثر دهشة وتشويقاً.من عاداتي الرمضانية التي تكونت طوال عملي في الصحافة طوال ما يزيد على ربع قرن أنني أعود لأرشيفي الصحفي فأرتبه وأصنفه رغم أنه عصي على الترتيب والتصيف. ومنذ أن اختفى الورق تقريبا فتحول أرشيفي إلى ملفات في قلب الحاسوب، أصبحت عادتي أكثر متعة، ذلك أنها تتيح لي ليس التصنيف والترتيب وحسب بل أيضا سهول القراءة من جديد في كل ما كتبته على سبيل الحنين حينا، وفي سبيل المقارنة مع الراهن أحيانا، وانسياقا وراء اكتشاف الذات من جديد في ما كتبته في القديم أحيانا أخرى. حتى أنني في مرات كثيرة وجدتني أحاول التأكد عما إذا كنت أنا فعلا من كتب هذا المقال أو ذاك.. وتختلط مشاعري تجاه بعض ما أقرأ ما بين الاستحسان والاستهجان.. وكأنه لا يمت لي بصلة ولا أكد أعرفه لولا أنه موقع باسمي!

 

قبل أيام وفي خضم البحث بين الملفات الكثيرة، وجدتني أقرأ مقالا عن القراءة والكتابة في رمضان في الماضي. فأحببت استعراضه من جديد على سبيل المقارنة في تدوينات متتالية هنا: لرمضان سحره الروحاني الجميل وله أجوائه الخاصة، والتي قد تبدو للبعض فرصة لكسر الروتين اليومي طوال الأحد عشر شهرا الأخرى من العام، ولا أعتقد أن أحدا يحتاج لكسر روتينه بشكل دائم ويومي أكثر من أولئك الذين أدركتهم حرفة الأدب، أعني المشتغلين بالكتابة والإبداع تحديدا. وربما لهذا السبب كان رمضان يمثل شهرا مفضلا لكل من يستخدم القلم شغلا وانشغالا وعملا واكتمالا وهواية أولى غالبا ما تتحول إلى أن تكون الوظيفة الأخيرة.

ففي طيات الزمن الرمضاني المتوهج بخصوصيته الذاتية وعبقه الديني المتراكم، اقتراحات دائمة للكتابة والقراءة والعمل، وتحريض، تحت وطأة الجوع المسالم تحديدا، على تحرر الأفكار، وانطلاقها نحو التحقق على الورق إبداعا لا يحتاج بعد ذلك إلا إلى قليل من التتمات والتعديلات والتي غالبا ما ينظر لها هؤلاء الكتاب والمبدعون على أنها الجزء الأسهل في العملية الإبداعية كلها. وبالتالي فلا عجب أن نعرف أن كثير من إبداعات هؤلاء المبدعين انطلقت شرارتها الأولى في فترات الانتظار صلاة وقياما، وسحورا وإفطارا.

 

وحتى أولئك الذين لا يتعاطون الأدب إلا عن طريق التلقي قراءة واستمتاعا، كانوا يجدون في أجواء الشهر الفضيل أكثر من فرصة لتلقي ما كانوا يؤجلون تلقيه وقراءته طوال أيام الشهور الأخرى فكانت تتراكم الكتب في مكتباتهم الخاصة، وبالقرب من أسرة النوم حتى يحين موعد ذلك الشهر المخصص لكل المؤجلات تقريبا، وكان من المعتاد جدا أن يتسابق الكثيرون على إعداد جدول بقراءاتهم التي يودون الانتهاء منها خلال الشهر الكريم، وهو جدول كان يتخذ مكانه ومكانته بجوار الإمساكية الرمضانية المعتادة، ويقتنص أوقاته الخاصة ما بين ساعات العبادة والعمل متعة لا تعادلها متعة في ذلك الشهر المفعم بروحانياته الجليلة، وكأنما كانت قراءة القرآن الكريم، والذي يحرص كثير من الصائمين على ختمه مرة أو أكثر خلال الصوم، كقراءة تعبدية أخروية تحرض، ولو بطريقة غير مباشرة، على القراءة الاستمتاعية الدنيوية.

لكن كل هذا كان زمان، وكان فعل ماض! أما الحاضر، فله أفعاله الجديدة والتي كثيرا ما تتناقض مع أفعال الماضي الرمضانية تحديدا، فقد كان لذلك الزمان الماضي معطياته التي خلقت له تلك الخصوصية في ذاكرة كل ما تعايش معه، ومن أهم تلك المعطيات، وسائل المتعة التي غالبا ما كنا نجد أنفسنا نبحث عنها تمضية لوقت الصيام الطويل في شهر رمضان بتعاقب فصول الشتاء والصيف وما بينهما عليه. وبمساحة المتعة البريئة والتسلية المتناسبة في طبيعتها مع طبيعة الشهر الفضيل كنا نقيس ما يتبقى لنا من وقت. فشهر رمضان كان للعبادة أولا، وللعمل ثانيا، وللتسلية بتلك الشروط ثالثا.

لأن وسائل المتعة الرمضانية كانت محدودة جدا، ما بين ألعاب بسيطة ومشاهدات تلفزيونية موحدة، واستماع دائم للإذاعات، وقراءات كانت لمن يحب القراءة فقط.. وزيارات عائلية، ثم نوم مبكر استعدادا لفترة سحور محددة قبل أن يصدح المؤذن بآذان الفجر فيصلي الجميع ثم يكملوا نومهم حتى موعد العمل أو المدرسة أو الاستعدادات المنزلية لموعد الإفطار، ولكل تفاصيله التي ترقد فــي قاع الذاكــرة كلما لاح في أفــق الرمضانات الــجديدة ما يذكرنا بها عكسيا غالبا. وما زال في الذكريات بقية ستأتي!ارتكز أشرف على حكايات عاشها أو سمعها أو وعاها فى قريته، واللافت هنا أنه لم يتوقف طويلا فى ذلك الفصل على خلاف المتوقع، ووعدنا بعودة إلى حكايات عاشها مع الجن الشرير والجن الصالح، كما ارتكز على ما اغترفه من القصص الشائع فى التراث العربى أو المصرى أو العالمى، حكايات بسيطة ودالة، وقد استنطقها معانى ذات علاقة عضوية بزماننا ومشكلاته أو بمعنى آخر ومعضلاته، طبقا للتسمية، التى كان أول من استخدمها الأستاذ محمد سيد أحمد، الكاتب بكل من الأهرام والأهالى، حيث كان له مقال أسبوعى تحت عنوان «معدلات عصرية».

فى الكتاب فيض من المشاعر الراقية والأفكار البنّاءة والحكمة والبراءة، وزخم من الرفض الحاسم لكل أشكال الإرهاب والتخلف والتلاعب بالعقول، وضعف الانتماء والأخلاق، وفى نصف القصص تقريبا نجد تلك الرغبة القوية فى إشاعة أكبر طاقة إيجابية لدى المتلقين، وصد الطاقات السلبية بأمضى الأسلحة: الكلمة والحكاية.

 

من الطبيعى فى حال كتلك أن ينحو الكاتب إلى مثالية قد لا يسمح بها واقع معقد أو إلى أن يكون فينا بمثابة الواعظ أو النذير، والكثير من ذلك مقبول ومحبّب فى الكتاب، وبعضه قد لا يكون مناسبا من حيث قوة العبارة أو الفكرة أو الرسالة أو التوقيت أو سلامة الاستنتاج من الحكاية التى بنى عليها إرشاده الأخلاقى أو الاجتماعى أو الوطنى.

يمتعنا الكتاب ببساطته وتدفقه وصدقه وطرافة حكاياته وتنوعها، وتجرى صور منه فى كينونة القارئ حتى دون أن يدرى، بل ومن المؤكد أن هناك قرّاء مثلى سيقصون بعض الحكايات منه على أحفادهم، وطبعا لن ينسبوها إلى الكاتب فهو ذاته قال إنها ملك للجميع كميراث عالمى على المشاع.

فى أول حكاية، نطالع صورة الابن الوفى الصبور مع الأب المريض، لنعرف فى آخرها أن كله سلف ودين، فالأب كان قد اتخذ نفس الموقف الوفى مع والده/ الجد، وحرفيا تقريبا.

وفى حكاية قبل أخيرة، ثمة قصة مدهشة عن طفل أراد أن يسافر وحده فى القطار لأنه كبر ولم يعد بحاجة إلى معونة، ومع إصراره وافق الأب، لكن أعطاه ورقة مطوية قال له لا تفتحها إلا إذا شعرت بالخوف والقلق، وهو قد شعر بهما فعلا بعد وقت من مغادرة القطار، حيث راح الركاب ينظرون إليه باستغراب ودهشة لكونه وحيدا فى تلك السن، وبمضى الوقت وحلول الظلام زاد قلقه فأخرج الورقة، فإذا المكتوب فيها: «أنا وأمك فى العربة الأخيرة من القطار ذاته»، أى أنهما سيظلان السند مهما كبرنا.

لا يمكن أن يحكى كاتب مثل أشرف عن طفولته فى القرية، دون أن ترد سيرة الجن والعفاريت، لكننى وجدت نفسى بحاجة إلى أن أقدم تفسيرا لموقف عاشه المؤلف، خلاصته أنه خرج وقت القيلولة إلى تلة ترابية معتمدا على قول جدته إن العفاريت تختفى وقت الحر الشديد، وفجأة وجد فى تراب التلة «برايز وشيلنات» بلا عدد ملأ منها جيوبه ثم عاد إلى البيت ليقدمها إلى الجدة لكنه لم يجد شيئا، فقالت له جدته: جبتهم معاك أى العفاريت، ومن وقتها التزم أمام جدته بألا يقص تلك الحكاية.

المهم أنى أكاد أجزم بأن ما حصل هو أن الطفل أشرف مفيد أغمى عليه من الحر وتصور فى الإغماءة وجود النقود الفكة تلك، وعندما أفاق جرى إلى بيته فرحا ليجد اللاشىء.

فى الكتاب حكايات منتشرة ومعروفة، ومن ثمّ لم أتحمس لضمها إلى المجموعة مثل حكاية قيام صعيدى مسافر إلى القاهرة بهز شوال به فئران اصطادها لتوريدها إلى مركز البحوث حتى تتعارك ولا تلتفت إلى الشوال ذاته وتمزقه، وكذا حكاية إحنا دافنينه سوا، عن فردين مات لهما (حمار) (أو كلب فى رواية أخرى) فدفناه بالصحراء، وحوّلا المدفن إلى مقام لشيخ، وجمعا نذورا هائلة، ثم اختلفا مرة على القسمة فحلف أحدهما بـ (وحياة سيدنا الشيخ)، فرد الآخر: (شيخ مين.. إحنا دافنينه سوا).

وثمة قصص بسيطة أخرى لم تكن قراءة الكاتب لها منطقية بما يكفى، مثل الكلب الذى وقع ضحية الطاقة السلبية، وهناك حكايات مباشرة جدا مثل «ليس كل ما يعرف يقال» أو «بنت الحتة»، لكن كل ذلك طبيعى فى باقة حكايات تبلغ ٨٨ حكاية. شكرًا على المتعة الشريفة.

وكل هذا كان زمان.

 

شاهد أيضاً

وزير التموين: تخفيض أسعار الزيوت بنسبة 36٪

كتبت: مي وليد أعلن الدكتور على المصيلحي، وزير التموين والتجارة الداخلية، انخفاض سعر الزيت اليوم …