لقد تخطى معنى الألم من مجرد عذاب يتفنن في جعل مذاق الحياة مراً كالحنظل بعد أن كان الشهد كله ! ..
سيفاً يخترق الضلوع ولا يصل لمنتهاها حتى يُجبر على التوقف , وكأنه لم يخترق جسداً بشرياً فانياً وإن طالت دُنياه , بل إخترق كوناً فسيحاً تتلاشى سماءه وتتجدد أراضيه وتتبدل أزمانه وكأنه يبغض أن يشيب والأبد هو مصيره , لا حد له ولا نهاية للعذاب فيه ..
وحشاً فتاكاً يترصد فريسته المسكينة التي لم تطمح يوماً للخروج لدُنياها لتلهو أو تعيش مغامرة ساحرة حول بلاد العالم , بل كان أملها الوحيد هو الحصول على قوت يومها و ما يمنحها فرصة جديدة لمسيرة الحياة بدلاً من أن يسلب الجوع منها بقاءها بغابتها الموحشة , هو فقط يترصد الفرصة حتى يقتنصها ويتمادى في نهشها في تلذذ عجيب , وكأن الفرصة لم تراوده من قبل وهي أول ضحاياه ! ..
وأما عنهم , فقد تبدل وإختلف معنى الألم أمام إدراكهم البرئ , البسيط , وبرغم بساطته فهو القادر على أخذك لعوالم أخرى لم تكن تتخيل أنها على قيد الحياة بإدراكك البدائي ! ..
هو معنى أخر يتحقق بمعنى الأمل , بحروفاً تتطابق معه ولكنها تختلف عن الأثر الذي يسكبه على نفوسهم النقية التي لم تتلوث ببصمات نقيضه بعد , فبذلك الأمل أصبحوا الفكرة بعد حسبتهم الحياة مجرد تحصيل حاصل و لا جدوى من وجودهم , بل هم المعنى ذاته ودون المعنى لن تكتمل لوحة الحياة وإن تكللت بكل معاني الإزهار والبهجة ..
وبما تعبث به أناملهم الرقيقة على تلك اللوحة تمكنوا من منح الحياة معناها الحقيقي , دون أن تحتاج بأن تطلق لإدراكك العنان في محاولة بائسة للكشف عنه , تعاند الأمواج في بحور المعنى لتجده ولكنها في الحقيقة بحور ضياعك أنت , تتسلق جبال الفكر الشاهقة وقد خُيل لك أن القمة هي فوزك بجدوى الوجود ونهاية لشقاءك ولكنك قبل أن تصل لقمته تجده يتهشم فوقك وكأنك عدوه الأوحد وليس رفيقه الذي إقتطع معه دهوراً من المحاولة ! ..
لقد عثروا على السر بينما نحن لا زلنا نحاول ! , لا زلنا نُفتش على معاني الرضا بحق , وفي محاولات البحث تُعرقلنا خطوات يأسنا وإضطرابنا , ولكنهم وبخطوات بسيطة إستطاعوا أن يُسطروا معاني جديدة من الرضا والأمل , بل إستطاعوا أن يُسطروا الحياة ذاتها , ونحن في تلك الحياة لم نعي كيف يُمكننا أن نحياها كما فعلوا هم , ولازالوا يفعلوا ..
مع بداية دخولك لعالمهم الصغير في حدود العظيم في أثره داخلك يبدأ قلبك في الشعور بأن ثمة حياة أخرى دبت فيه للتو ! , حياة تتلون كما تتلون أرجاء هذا الصرح العملاق بالبهجة والتفاؤل , وإن كانت بهجتهم مُشوبة ببعض الأثار الجانبية لما يتلقوه من علاج ولكنهم وجدوا في ذلك حتى الشفاء كله , نظرتهم للأشياء تختلف عنا نحن , فهم وجدوا في كل ركن من أركان عالمهم هذا بداية , بداية لهم وبرغم ما يُعانوه من ألم ..
والعجيب أنك ستشعر بأن قدماك قد خطت أول خطواتها في عالم جديد لا يُشبه عالمك , بل تجدك تتمايل بخفة كأنك فراشة الربيع الحالمة , لا تشعر بزمن هناك يُحسب , وكأن الكون توقف عن دورانه وتجمد , فلم أشعر أين أكون أنا ! , وهل هو نهاراً يشتعل بشمسه الحارقة أم أن ليل نهاري قد أقبل بنسماته الهادئة وسماءه الممزوجة بمصابيحه الخافتة ؟ , وكأنني توقفت أيضاً عن يقظتي ولامست التخبط داخلي , والإضطراب لم يجد سواي ليحكم قبضته بعنف ! , فلا أنت أنت ولا الزمن هو الزمن , لقد إخترقت حياة دون أن تحسب لذلك أي حساب ! , ومن ذا الذي يحسب ذلك الإعجاز الساحر , لقد إنتشلك كونهم منك ومن ضياعك وأفاض عليك بنبضات الجمال والسلام , فتبدلت أنت وتبدلت خطواتك من مجرد خطوات لا تُدرك أين هو مقصدها وأين منتهاها , إلى خطوات برغم أنها تُلامس الأرض إلا أنها تُحلق في سماء السعادة بعد أن كنت مجرد إنسان يعجز عن كسر حدود عالمه , الآن استطعت أن تفعلها وبسلاسة ! ,وأما عن الفضل فيعود لهم ..
يتمايل بصرك هنا وهناك ويُسافر عبر أضيق الأركان فيكتشف أنه يخبئ خلفه أكوان أخرى من أكوانهم اللامنتهيه , تطلقه فيتخطى حدوده ويجد أنه ثمة عوالم أخرى قد شكلوها بلمساتهم الساحرة , وكأنهم الفنان الذي يلتقط ريشته فيمنح لوحته بريقاً خاصاً وبصمة يتفرد بها عن غيره من المُبدعين , لقد أزالوا الحُجاب عن كل ما هو غامض , عن كل ما يطمح عقلك لفهم معناه , الآن أنت تعي معنى الحياة وبحق , بعد دهوراً باءت محاولاتك فيها بالفشل الذريع ! , وأنت في تلك المحاولات الضائع كما هي تماماً , فقط تحاول وتخفق , ثم تعاود المحاولة فتُعرقلك الحياة فتخفق من جديد , قضيت في ذلك عمرك بأكمله وإن كانت مجرد لحظات من زمنك , لقد إستنفذت الحياة فيك كل المعاني التي وددت لو تشبعت بها حتى تقوى على الإستمرار بطرقاتها , فكيف تغدو بها وأنت فاقداً لمعاني السعادة ؟! , ومعهم ودون أن تدري كيف حدث ذلك بتلك المرونة والبساطة ..ق دووجدت ما سلبته الحياة منك أخيراً ..
بسماتهم في حد ذاتها تُنقذ الغريق وإن كان يُصارع المحيط وحده في ليلاً حالكاً قارس البرودة ومما يُصارعه داخله من رهبة وفزع فقد القدرة على الأمل في النجاة , فقد القدرة على رؤية نور الصباح من جديد , فهو نقيض الحال معك الآن , أنت الآن في أمان , لا يليق بك شعور الخوف , فما من مخافة من شئ بعد الآن , فقط تتشرب بسمتهم في هدوء ولا تكتفِ , فقط شعرت الآن أن ثمة شيئاً يتفتح ببساتين روحك , لم تعهده من قبل , شئ يصرخ كطفلاً صغيراً قد ولد للتو , زهرة تنشق لتتنسم الحياة وضياءها , أنوار تبتلع الظُلمة التي أفاض الحزن الحياة بها , لقد لأمست فيك معنى الرغبة أخيراً ! , رغبتك في أن تبتسم وتمنح ملامحك جدوتها , فهي لم ترتسم دون هدف , بها تمنح الحياة حياة ومنها تمنح وجودك معنى , وليس رغبتك في أن تبتسم وحسب , بل رغبتك في شئ أكبر وأعظم .. رغبتك في الحياة ..
الآن يمكننا أن نُعلن للحياة .. لقد أصبحت جديراً بأن تكون إنساناً .. فلا تحسب أنك إستحققتك هذا اللقب طيلة ما حييت , فبلحظات نادرة كمثل هذه اللحظات يمكنك حينها وفقط أن تصبح الإنسان وتصبح إنسانتيك هي تاج يُزينك حتى تلقى ربك ..
وبعد أن ينتشلك الواقع من جديد فتخطو بأول خطوة خارج هذا العالم المميز , تجدك قد عدت لذاتك من جديد , ولكنك لم تعد فارغ الأيدي , فقد منحوك نوع من أنواع الشكر ولكنه شكر مذاقه مختلف , لقد منحوك الرضا والسعادة , رؤية الأمل حتى في أحلك الظروف , وجود وإن كانت الحياة حولك هي العدم .. فأقسمت على أن ترد لهم الهدية أضعاف مُضاعفة .. فقط تنشر ما بك من جمال في قلوب كل البشر حولك , وبالرضا تحيا ..
وبعد أن نظرت في ساعتي وجدت أن هذه الرحلة لزمن النجاة لم تكن سوى .. نعم هي مجرد ساعة من زمن الحياة .. ولكنها بكل الحياة ..