لم ﻳﻌﺪ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍلإﻧﻄﻮﺍﺀ ﺳﻠﺒﻴاً ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺂﻥ ..
ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺮﺍﺋﺤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺣﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﻮﻟﺎﺩﺓ ﻋﻀﻮ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺃﻋﻀﺎﺀ ﺇﺑﺪﺍﻉ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ ﺍﻟﻤﻘﺮﻭﺀ ﻣﺌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻟﻢ ﻳﺸﻴﺐ ﻟﺤﻈﺔ ﻟﻤﺎ ﻳﺤﺘﻮﻳﻪ ﻣﻦ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺷﺎﺑﺔ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ، ﺑﻴﻦ ﺍلأﻭﺭﺍﻕ ﺫﺍﺕ ﺍلأﺳﻄﺮ ﺍﻟﻤﺰﻳﻨﺔ ﺑﺄﺣﺮﻑ ﺫﺍﺕ ﻃﺎﺑﻊ ﺇﺑﺪﺍﻋﻲ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﻤﺰﻗﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻔﺸﻞ ﻭﻟﺎﺩﺓ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﺑﺴﻠﺎﻡ .. ﻳﺼﺒﺢ ﺣﻴﻨﻬﺎ ﺍلإﻧﻄﻮﺍﺀ ﻣﺤﺒﺐ ﻟﻠﻌﻘﻞ ، ﺻﺪﻳﻖ ﻟﻠﺎﺑﺪﺍﻉ ﻭﻋﺪﻭ ﻟﺠﻤﻮﺩ ﺍﻟﻔﻜﺮ .. ﻳﺼﺒﺢ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ ﻣﻌﻨﻰ ﻭﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﺣﻴﺎﺓ ، ﻓﺈﻥ ﻏﺮﻗﺖ ﻓﻲ ﺑﺤﻮﺭﻩ ﻟﻦ ﺗُﻔﻨﻰ ! ، ﺑﻞ ﺳﺘﺤﻴﺎ ﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﻭﻛﺄﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﺤﻴﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻐﺮﻕ ﺳﺒﻴﻠﺎ ﻟﻨﺠﺎﺓ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻓﻬﺎ ﺃﻧﺎ ﺃﻋﻠﻦ ﻏﺮﻗﻲ ﺑﻜﺎﻣﻞ ﺇﺭﺍﺩﺗﻲ ﻭﺇﺳﺘﺴﻠﺎﻣﻲ ﻟﺒﺤﻮﺭﻩ ..
نعم لقد أعلنت غرقي ولا أخشى الهلاك !
حسبوني قد تمادى الجنون في نشر طاقته العبثية داخلي , خُيل إليهم أنني فقدت صوابي تماماً حتى أخذت أهذي بتلك الكلمات اللامنطقية بل وأُصر على تصديقها وجعلها جزءاً ولا يتجزأ من مبادئي , نشروا بينهم الأكاذيب حيال أمري , وأخذوا يتقاذفون الأخبار بين بعضهم البعض , تارة يقولون ” لقد تبلدت من مشاعرها وسحقت عاطفتها من أجل فلسفتها التي لا تتركها بحالها لحظة ” , وتارة أخرى ” لقد غرقت في بحور الفكر الذي لن تجد فيه سوى تياراً جارفاً لن يمنحها سوى الإضطراب ومن ثم يعتصر راحة بال حتى الفناء ” , وتارة وتارة , ولكنهم لم يضعوا في حُسبانهم هذا أن كل هذه الُهراءات ما هي إلا أقاويل من وحي جمود فكرهم ونمطية فلسفتهم ! , فكر جامد لم يعرف طريقاً نحو الإرتقاء , وفلسفة مشلولة لا تقوى على الحركة بخطوة واحدة حتى وإن كانت خطوة نحو التراجع ! , ثابتة ثبات أبدي ! , لم يُدركوا بعد أن الغرق اذي يتحدثون عنه هو النجاة الوحيدة ! , النجاة التي لن تسمح لي بأي غرق , لن تتركني وحيدة شريدة ضائعة في طرقات الحياة , بل ستكون هي اليد التي تحكم قبضتها على قبضتي وتأخذني في رحلة راقية نحو الإبداع , رحلة لا عودة منها , وإن كان الغرق بوجهة نظرهم أن أستقل موكباً لا بشرياً فيه , فها أنا أُعلن غرقي بكامل إرادتي دون أي إرغام أو ضغط من قِبل الحياة ..
سألوه ما هو سر إبتهاجك ؟ .. وكانت الإجابة صادمة للبعض ! ..
ألم تمر ذات يوم بإنسان قد إختصر الحياة في بعض الأوراق البالية ؟ , أوراق قد أعلنت عن نهايتها منذ قرون ولكنها لازالت تفيض بالحياة وتنبض بالفكر , أوراق رغم مظهرها البسيط , الغير مُتكلف , المُمزقة , ولكنها لم تُمزق في تلك الحالة إنتقاماً منها , بل مُزقت كدلالة على العودة لها مراراً وتكراراً حتى أعلنت ذُبولها , كأنها ورقة تساقطت من شجرة فارعة تمر عليها كل ليلة عند عودتك من عملك , تستقر أسفل منزلك وأفرعها تمتد حتى شرفتك فتوقظك من نومك كل صباح لما عليها من طيور مُغردة تعمل كمُنبة طبيعي هدية من كونك الخلاب , تمتد لغرفتك تلك وإن كنت تقطن بين نجوم السماء حتى ! , أخذت تمتد وتمتد حتى بلغت من عمرها أقصاه , ولكن وبرغم كل ذلك هي ثابتة لا شئ قادر على زعزعة أغصانها , جذورها لا تعرف سوى القوة والتلاحم , تفيض عليك بمعاني الجمال كل صباح كونها مُستقراً لطيور الحياة , ومساءاً كونها المصدر الوحيد الذي يؤنسك في ظُلمة ليلك , كذلك هي تلك الأوراق الساحرة , جذور إبداعها لا تتوقف عن الثبات , وأغصان فكرها لازالت مُستقراً لكل الأفكار الرنانة , أنت دونها كالضال في صحراء جرداء , لم تعثر بعد على خريطة تُرشدك لأولى خطوات الخروج من مأزقك هذا , كالتائة بين أمواج بحر الحياة , ولم تجد بعد ” القشة ” المُنقذة لك , رغم ذبولها فهي لا تكتفِ بفرض سيطرة إبداعها على عقلك الذي يتطلع دوماً نحو التشرب بماء العلم والثقافة , شربة لا ظمأ بعدها ..
مررت به , ووجدته يحصر جسده النحيل في حدود تلك الورقات , ولا يحاول حتى الخروج منها ليقتنص بعض نسمات الحياة التي تطلبها رئتيه من حيناً لأخر , فقط اكتفى بأكسجين أفكار الورقات وأخذ يتشبع منها , هي بمثابة طوق النجاة له , وإن تركها فلن يُغنيه عن ذلك كل أدوية السكر والضغط والقلب , هو في أشد الحاجة لدواء العقل , دواء الفكر والفلسفة , التي لن تجدها بأي صيدلية من صيدليات الدُنيا الزائلة , فقط تجدها بصيدلية ” القراءة ” ..
عندما اقتربوا منه في محاولة لجذب إنتباهه قليلاً بعيداً عما يحتضنه من ورقات وكتب وحياة أخرى قد أقسم ألا يخرج عن حدودها يوماً , وجدوا أن حتى محاولة الإقتراب هذه لن تجني ثمارها لهم , فلا إنتباه يُلفت , ولا نظر يحيد ! , لا يكترث للعالم حوله , لا يُعطي أحداً أي أهمية , أصبحت وجهته الأولى والأخيرة هي كلمات رتبتها الحروف ووُظفت حتى تخرج بمعاني لا حصر لها , صادقة ومُعبرة , فأخذ كل معنى يتبارى في سحق المعنى الأخر حتى يستحوذ على إنتباه قارئنا , فيما يُسمى بمعركة ” الإرتقاء الفكري ” , هي المعركة الوحيدة المسموح فيها إستخدام كل أسلحة العقل : التخيل , التشبية , التمثيل , كل الأسلحة مسموح بإستخدامها حينها , والفوز فيها للأقوى , ليس لمن يفرد عضلاته وحسب , بل لمن يُثبت قوته و مقدرته على السمو بالعقل نحو أعلى مراتب التفكر , تلك المراتب التي لم يطمح الإنسان إلا لسواها , وكانت هي هدفه الأول , وظلت هدفه حتى يصل لأخر أنفاسه , تارة يفقد أمله في الصعود نحو تلك المراتب , وتارة أخرى يفقد يأسه ويتبدل إلى الأمل في الوصول حتى وإن تأخر موعده ..
ولكنه في لحظة .. التفت !
التفت فقط ليرى من هؤلاء الحمقى الذين يتفننون في إشغاله ؟! , هل يحق لبشري أياً كان أن يقطع تلك الحبال الفكرية التي تترابط في لحظة وتنقطع في أقل من اللحظة ذاتها ؟! , إنها جريمة لابد أن يُعاقب عليها القانون ! , من يرتكبها هو قاتل وبجدارة , قاتل مُحترف مأجور بل وسفاح شرس أخذ يستدرج ضحاياه واحداً تلو الأخر حتى يسلب منهم إتزان فكرهم وتركيزهم الذي لا سيطرة عليه مع الأسف ! , في لحظة قد يُدمر بمنتهى البساطة وفي لحظة أخرى لن تجد أقوى منه ! , فإن قام بشرياً بسحق هذه اللحظة الجوهرية في حياة إنساناً أخر فهو بلا شك ” مُذنب ” في حق العقل والفكر ويجب تطبيق أقصى العقوبة عليه ..
نظر إليهم نظرة ضيق وألقى عليهم سؤالاً تسمروا مكانهم عند سماعه !
من أنتم لتُخرجوا إنساناً مثلي قد تخلى عن حياتكم تلك بكل ما فيها من مُغريات واكتفى بفكره وفقط ؟! .. أخذ السؤال يتبارى هو الأخر داخلهم , ولكنها الآن معركة من نوع أخر , فليست كمثل تلك المعركة التي تُقام في عقل البشري كل لحظة يفتتح فيها كتاباً , معركة نبيلة لا ضرر منها , ولكن معركتنا الآن هي معركة يسودها الإضطراب , تأنيب الضمير , الندم , الحنق والضيق , لقد أدركوا الآن مدى قسوة جريمتهم في حقه , لقد سلبوا منه إتزانه الذي لم يُطالب الحياة بشيئاً سواه ! , لقد تنازل عن جميع حقوقه للحياة وللبشرية , وأخذ معه بعض الكتب فقط ليُدفئوه عندما يحين شتاء جمود الفكر , وتُرسل إليه بعض النسمات الباردة حينما تُعلن الحياة عن حرارة الفكر وإشتداد فلسفتها , تُرسل إليه أمطاراً من الأفكار المختلفة التي بها يتنسم روائح الإبداع الحقيقي , وأوراق خريف المنطق تتساقط على رأسه فتنغمس بعقله فيخرج لنا إنسان نراه للمرة الأولى ! ..
نعم لقد وجد موطنه الأصلي الآن .. فهل أنت المُستعمر لهذا الموطن ؟! ..
هل ستُرغمه للخروج عن موطنه هذا ؟ , بعد قرون من الضياع , بعد لحظات عصفت به وزرعت في قلبه شعور اليأس حيال أمر وصوله , هل أنت بتلك القسوة لتُبدد راحته بعد عُمر من التعب ؟! ..
فإن أردت أن تعود لأرضك الحقيقية , التي لم تُولد عليها , ولكنك ستُخلق من جديد بمجرد أن تدب أقدام عقلك على تُراب فكرها , فلا تُضيع وقتاً , فلن تبحث عن هذه الأرض هنا وهناك , هي بين يديك تنتظر منك صافرة البداية وفقط , أنظر حولك , ستجد مئات الأراضي مُتناثرة حولك , يكسوها التراب , امحيه عنها وأفتح معها صفحة جديدة , صفحة البداية لك , ما عليك سوى أن .. تقرأ ..