الرئيسية / T. Vالجمهور / رحلة عبر الزمن .. ” قصر الأمير محمد علي ” تحفة فنية على أرض المحروسة

رحلة عبر الزمن .. ” قصر الأمير محمد علي ” تحفة فنية على أرض المحروسة

كتبت: نـــورا محمـــد

لطالما كانت مِصرنا الحبيبة منبع الحضارات بأسرها , منذ أن بدأت الحياة حيث وهي تشرق بشمس التاريخ الذي يُكتب بأحرف من ذهب على أيديها , وإن حاولنا جاهدين أن نجد نهاية لهذه الحضارة الممتدة منذ آلالاف السنين فـ حتماً لن نعثر لأنها الباقية بما تركته على أرضها الطاهرة بعظمة أجدادنا وجهد أحفادهم ..

رحلتنا اليوم تنطلق تحديداً إلى جزيرة منيل الروضة , لنعثر على هذا الكنز الثمين الذي يُبهر العالم أجمع بأصالة وعراقة حضارتنا , بُني على طراز فريد جعله يتميز عن غيره من قصور مر عليها عصور وعصور , شهدت مِصر على رُقي تفاصيله ودُهش العالم بعظمة بناءه , هو ليس بتشييد يُعبر عن مرحلة من عمر الإنسانية وحسب , بل هو عالم آخر تشهده بمجرد أن تبدأ جولتك داخله ! , صرح من الفخامة التي لم تعهد مثلها من قبل , قصر .. لطالما دار في أحلامك التمني بأن تكون واحداً من مُلاكه , أن تكون أميراً به تحكم كيفما تشاء وتُنثر خطواتك بكل أرجاءه , هنا وهناك , لطالما طمحت بأن يصبح حُلمك حقيقة ملموسة وليس مجرد أمنيات وأحلام لا معنى لها ! .. والآن , أصبح الحُلم حقيقة وعلى بُعد خطوات منك ..

 

قصر الأمير محمد علي .. الأمير الذي شغل منصب ولي العهد ثلاث مرات ولكن الحياة لم تسمح له بأن يكون صاحب العرش بقصره الفخم طيلة حياته ! .. كانت المرة الأولى التي شغل فيها منصب ولي العهد في عهد شقيقه الخديوي عباس حلمي الثاني , والثانية في 1936 بعد وفاة عمه الملك فؤاد الأول , والأخيرة عندما نُصب ولياً لعهد الملك فاروق ..

يقع بقلب العاصمة المصرية ” القاهرة ” .. تم بناءه منذ أكثر من 100 عام وعلى الرغم من هذا فــ لا تزال نقوشه وزخارفه كما هي ولم تتأثر بعوامل الحياة الهادمة لأي إبداع تركه التاريخ , بدأت أعمال البناء والتشييد له عام 1901 وذلك على مساحة تتجاوز 60 ألف متر مربع , حيث قام الأمير محمد علي بتولي مهمة وضع التصميمات الهندسية والزخرفية , كما أنه أشرف على البناء بنفسه بينما قام بالتنفيذ المعلم محمد عفيفي وتم الإنتهاء منه عام 1943 .. تعود أصوله إلى العهد الملكي في مِصر , حيث تم إنشاءه على يد الأمير محمد علي وهو الإبن الثاني للخديوي توفيق وشقيق الخديوي عباس حلمي الثاني .. وأمه هى الأميرة أمينة نجيبة إلهامى كريمة إبراهيم إلهامى باشا إبن عباس الأول .. وقد كانت وصيته الخاصة بأن يكون قصره مُتحفاً له بعد وفاته ..

الأمير محمد علي الذي كان مولعاً بالعلوم فدخل المدرسة العليا بعابدين ليحصد العلوم الابتدائية , ومنذ أن كان شاباً شُهد له بالحكمة وظهر عليه ميله إلى العلم و الآداب والفنون خاصةً الفنون الإسلامية ..

 

قصرنا اليوم هو التحفة المعمارية التي تقف أمامها مذهولاً من دقة التفاصيل وبراعة التصميم والتنفيذ , وكيف لا يخرج لنا بهذه الصورة البهية ذات السحر الآخاذ ؟! , فالجدير بالذكر أن القصر قد بُني على أكثر من طراز إسلامي فريد : العثماني , الأندلسي الفارسي , المملوكي , الفاطمي والشامي ..

 

فهو بمثابة مدرسة معمارية جامعة لكل الفنون , فقد جمع بين أكثر طراز فني ومعماري في جميع أرجاءه , حتى تميز عن غيره من الأثار في الأصالة والعظمة , لدرجة أنك لن تقوى على الإفاقة من جمال تفاصيله مع كل خطوة تخطوها بداخله , سوف تسلبك إلى عالم الأمراء والأكابر خلال رحلة قصيرة من الزمن قد لا تتعدى الساعة من عمر زمنك ! , ولكنها كفيلة بأن تمنحك حياة أخرى عن واقعك الذي تُحاول مُجاراة تياره , حياة تنغمس فيها بالدهشة والذهول عما يقع على أرض الكنانة من أثار يشهد لها الزمن بأنها لن تتحلل بعظمتها برغم مرور الدهور على تشييدها ..

 

ومن أول خطوة لك بداخل هذا العالم تجد أولى محطاته التي تفيض عليك بالبهاء والبهجة والفخر ..

 

المحطة الأولى هي / سراي الإستقبال .. تقع في بداية دخولك من بوابته العريقة , وكان الهدف منها هو إستقبال الضيوف الرسميين , تتكون من طابقين الأول يضم حجرة التشريفة وهي مُخصصة من أجل إستقبال الشخصيات الرسمية والسفراء وكبار رجال الدولة وحجرة إستقبال كبار المُصلين مع الأمير في مسجده بالقصر , والطابق الثاني العلوي يضم قاعتان كبيرتان تم تصميم إحداهما على الطراز المغربي حيث كُسيت جدرانها بالمرايا والبلاطات القيشاني وتم تصميم القاعة الثانية على الطراز الشامي ..

 

وبعد أن تتمايل بخفة خلال هذه المحطة وتكاد تُقسم أنك قد إكتفيت بما رأيت من روعة لا مثيل لها وأن أي شيئاً أخر قد يكون من ضرب الجنون ! , ولكنك تُفاجئ أنك لازلت في بداية رحلتك ! , ثمة محطات ومحطات تنتظرك لتقذفك في بحور التاريخ وعراقته الخالدة ..

وها هي محطتك الثانية / برج الساعة .. على غرار الأبراج الأندلسية والمغربية تم تشييدها , حيث أن هذه الأبراج كانت تُستخدم في المراقبة وإرسال الرسائل بواسطة النيران ليلاً , والدخان نهاراً .. وعلى برج الساعة تمت الكتابة بالخط الكوفي , يُزين حولها العديد من الأشكال المعمارية التي تم تصميمها بــ إبداع وتنفيذها بــ فن و رقي ..

تنتقل إلى محطتك الثالثة وهي / المسجد .. شُيد المسجد على الطراز العثماني , وقد اثبت أن للإبداع المعماري مكان يمكن التعلم منه أصول الفنون والإبتكار , يتكون المسجد من إيوانين , الإيوان الشرقي تم تنفيذه شكل قباب صغيرة من الزجاج الأصفر , بينما تم تنفيذ الإيوان الغربي بزخارف من أشعة الشمس الساطعة التي تُسطر تاريخ مِصر مع كل شروق لها , وبالذهب الذي يمنح من وهجه نوراً للبشرية بأكملها كأشعة الشمس المُنيرة للكون تم تنفيذ المحراب والمنبر ببراعة مُتقنة , وكُسيت الجدران ببلاطات قيشاني على بعضها كتابات .. كما ويضم المسجد لوحة كُتب عليها أسماء من شاركوا فى البناء .. تعيش في هذه المرحلة حالة روحانية تمنحك السكون والسلام والطُمأنينة , فتشعر بأنك لازلت قيد حُلمك , ولكن الحقيقة أنك بكامل قواك العقلية وأن رحلتك لم تنتهي بعد ! ..

ومن المحطة الثالثة تبدأ رحلتك إلى قمة عظمتها , مع دخولك إلى / سراي الإقامة .. وهي أول السراي التي بناها الأمير محمد علي لتكون مقراً لإقامته وبعدها استكمل البناء في هذا العالم المُبهر بــ ” سرايا الإستقبال وسرايا العرش ” .. تُعتبر من المباني الأساسية و الرئيسية في هذا الصرح الفني المُدهش , تتكون من طابقين , ويصل بين كل طابق والأخر سُلم تم صناعته بمهارة شديدة , يتكون الطابق الأول من عدة حجرات / حُجرة الحريم , حُجرة المرايات , حُجرة الصالون الأزرق , حُجرة المدفئة , حُجرة الطعام , حُجرة صالون الصدف , الشكمة ومكتب الأمير , كما أن هذا الطابق يضم بهو النافورة المميز له , وكل حُجرة تتميز بأشكال مختلفة من السجاد والنقوش والأثاث والمقتنيات بحيث تُعد كل حُجرة بمثابة عالم آخر عن غيرها بما بها من فنون العمارة والتشييد ..وتعتبر متحفاً لأنواع البلاطات القيشاني التركي , ومُلحق بها برج يطل على أهم المعالم الموجودة في القاهرة والجيزة ..

ثم على بُعد خطوات معدودة تجد / سراي العرش .. تتزين بأبهى صورها لأستقبال الضيوف والنبلاء , حيث كان يستقبلهم الأمير محمد علي في المناسبات والأعياد , حيث تحتوي هذه القاعة على العديد من اللوحات الكبيرة لأسرة محمد علي ممن حكموا مِصر يوماً ما , بالإضافة إلى لوحات تضم مناظر طبيعية تُعبر عن مدى جمال مِصر وطبيعتها الخلابة , وأثاثها من الخشب المُذهب والمُغطى بالقطيفة , والطابق العلوي من هذه السرايا يتكون من قاعتين مخصصتين للجلسات الشتوية , وأيضاً بها حُجرة مخصصة لمُقتنيات ” إلهامي باشا ” وهو جد الأمير محمد علي لوالدته , ويُطلق عليها حجرة الأوبيسون حيث أن جميع جدرانها تم تغطيتها بنسيج الأوبيسون الفرنسي ..

وبــ خمسة عشر قاعة تنتقل إلى / المتحف الخاص .. حيث تحتوي كل قاعة على بعض الصور الزيتية لأفراد أسرة الأمير محمد علي بجانب مجموعات نادرة من السجاد والمخطوطات العربية النادرة و لوحات لمناظر طبيعية , تحف معدنية ، تحف زجاجية من الكريستال ومجموعة من أدوات الكتابة والملابس والمفارش والأثاث والشمعدانات .. وتعتبر القاعة الخامسة أكبر القاعات ويتم عرض فيها مجموعة من السجاد النادر من الطرز المختلفة ..

والآن .. إلى المرحلة الأخيرة من جولتك التي تشربت منها الفخر بهذا التاريخ الذي انتمى كيانك إليه ..

متحف الصيد .. يضم متحف الصيد العديد القطع المُحنطة للحيوانات البرية والطيور والزواحف والفراشات , وهي من مقتنيات الصيد الخاصة بالملك فاروق والأمير محمد علي والأمير يوسف كمال , حيث يبلغ عدد القطع به ما يُقارب الــ 1180 قطعة , كما يضم متحف الصيد العديد من التحف والأدوات الخاصة بالصيد واللوحات ..

القاعة الذهبية .. هي قاعة كانت مُخصصة لإقامة كل الإحتفالات الرسمية التي كان يُقيمها الأمير محمد علي والجدير بالذكر أنه تم نقلها بواسطة الأمير من منزل جده إلهامى باشا إلى قصره الذي يُعد تحفة فنية مُعاصرة , احتوت على الذهب الخالص الذي تم طلائه على عدد من الزخارف النباتية المنقوشة على جدرانها ونظراً لذلك سُميت بالقاعة الذهبية ..

وبأشجار الفيكس التي يبلغ عمرها ما يُقارب 500 عام مع أشهر أنواع النخيل الملكي تزينت حديقة القصر وأبهرت الجميع بما تحتويه من مناظر خلابة تخطف الأنفاس , تبلغ مساحتها 34 ألف متر مربع وقد جمع الأمير العديد من النباتات النادرة من رحلاته حول العالم وكانت هي مُستقرها , حيث ضمت حديقة القصر حوالي 55 نوع من هذه النباتات منها مجموعة الصبار وأشجار التين الهندي , لتُكمل جمال قصره بلمسة طبيعية يفوح منها عبق التاريخ وعراقته ..

وما يُضفي علينا السعادة أن القصر لم يقتصر على كونه مكاناً يضم المقتنيات الخاصة وعرضها وفقط , بل أنه أيضاً يُقام به العديد من الفعاليات الثقافية و ورش العمل التعليمية , فأصبح مقراً للفنون والتعلم والثقافة بكل أشكالهم ..

امنح روحك القليل لتتنسم رُقي الماضي الذي لازال حاضراً بقيمته وأثره الذي يتركه في نفوس الأحياء ..

و لتصف لنا شعور الفخر بداخلك تجاه هذه الحضارة التي يشهد لها التاريخ بأنها زادته تألقاً ؟ ..

وإن عجزت عن الوصف .. دع مِصرنا الحبيبة تمنحك الإجابة مع كل خطوة بها .. واستمتع بالرحلة ..